كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار} {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ}، وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} يقول: هو إله من في السموات، وإله من في الأرض، وهو على العرش! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.
قال: ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلًا كان في يده قدح من قوارير صاف، وفيه شيء، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى: لو أن رجلًا بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتًا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه- وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق.
قال أحمد رضي الله عنه: ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم} إلى أن قال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أوله؟ إن الله يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم} يعني أن الله بعلمه رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم، يفتح الخبر بعلمه، ويختمه بعلمه. انتهى.
ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور: وقلنا للجهمية: زعمتم أن الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فقلنا لهم: أخبرونا عن قوله الله جل ثناؤه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}.
لِمَ تجلى، إذا كان فيه بزعمكم؟ ولو كان فيه كما تزعمون، لم يكن يتجلى لشيء، لكن الله تعالى على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئًا لم يكن يراه قط قبل ذلك.
وقلنا للجهمية: الله نور؟ فقالوا: نور كله. فقلنا: قال الله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}.
فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورًا، قلنا: أخبرونا، حين زعمتم أن الله في كل مكان، وهو نور، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله.
فرحم الله من عقل عن الله ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار، وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته. انتهى.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح حديث: «ينزل ربنا كل ليلة» الحديث، ما نصه: هذا الحديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله تعالى في السماء، على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان، وليس على العرش.
والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ثم ساق عدة آيات في ذلك، وقال: هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة.
وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل: {اسْتَوى} استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة. ومعنى الإستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد.
ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر والأظهر من وجوه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.
ولو ساغ ادّعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات. وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب، من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والإستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلو والإرتفاع على الشيء، والإستقرار والتمكن فيه.
قال أبو عبيدة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: علا، قال: تقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت.
وقال غيره: استوى أي: استقر، واحتج بقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.
قال ابن عبد البر: الاستواء: الإستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} وقال تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ}، وقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلىْ الْفُلْكِ} وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ** وقد حلق النجم اليماني فاستوى

وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى، لأن النجم لا يستولي.
وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم ما رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال: استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جانبه: إنه أمركم أن ترفعوا، فقال الخليل: هو من قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، فصعدنا إليه، قال: وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.
فالجواب: أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلَتُه مجهولة وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان.
وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يُعرف، وهم لا يقبلون بأخبار الآحاد، فكيف يسوغ لهم الإحتجاج بمثل هذا الحديث، لو عقلوا وأنصفوا؟ أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}؟ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبًا. قال الشاعر:
فسبحان من لا يقدرالخلق قدره ** ومن هو فوق العرش فرد مُوحد

مليك على عرش السماء مهيمن ** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت. وفيه يقول في وصف الملائكة:
وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه ** يعظم ربًا فوقه ويُمجد

قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} وبقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ}، وبقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم}، وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته- تبارك وتعالى جده- قيل: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير.
وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالإختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر، وأما قوله في الآية الأخرى: {وفِي الأَرْضِ إِلهٌ} فالإجماع والإتفاق قد بين أن المراد أنه معبود من أهل الأرض. فتدبر هذا فإنه قاطع.
ومن الحجة أيضًا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته.
لأنه اضطراري لم يخالفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها، إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال لها: «أين الله؟» فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: «من أنا؟» قالت أنت رسول الله. قال: «أعتقها فإنها مؤمنة». فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.
قال: وأما احتجاجهم بقوله: تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وذكر سُنَيْد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مُزَاحم في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا.